ایران: طریق الدیمقراطیة في حقل من الالغام

رفسنجاني: أقاله الشعب من المجلس النیابي أم إستقال؟

عندما كانت الملایین من البشر من جمیع الفئات الاجتماعیة فی ایران تهتف، فی عامي 1978- 1979، بسقوط الدكتاتوریة و تطالب بالاستقلال و الحریة و العدالة الاجتماعیة لم یكن احد یتصور ان طریق الانقاذ ستكون ملغومة و مشحونة بالمخاطر الی هذا الحد؛ كما لم یكن یخطر ببال احد ان المناداة بالجمهوریة الاسلامیة، بكل ما فیها من ابهام و التی فرضها الخمینی، ستكون لها عواقب لن یتخلص منها الشعب حتی بعد اكثر من عشرین عاماً.

الاحداث الخطیرة التي تشهدها ایران هذه الایام و الصراع علی السلطة بین ما یسمی بالمتشددین و بالاصلاحیین و التهدیدات بالاغتیال و القمع و بالانقلاب العسكری و سن القوانین التی من شأنها ان تحدّ من الهوامش البسیطة أصلاً لحریة التعبیر؛ هذا كله یذكّرنا بما حصل منذ وصول الخمینی الی الحكم و اصراره علی ان یبقی هو و اتباعه من رجال الدین اسیاد الموقف و لیس غیرهم و ان تكون بیدهم حصراً كل مقالید الامور. انهم استخدموا لتبریر هذا الموقف كل ما كان فی متناول ایدیهم من المخزون التاریخی الدینی و الاساطیر و الاوهام و كذلك من التجارب الشعبویة التي أظهر بعض رجال الدین براعة مطلقة فیها كما استخدم الخمیني و اتباعه من الاسالیب القمعیة القروسطیة و الحدیثة و بدون تحفظ و احراج كي یثبّتوا اركان نظامهم.

ان من یتابع اخبار ایران فی الصحف من بعید، لایمكنه ان یتصور حقیقة ما جری و یجری هناك و لا یمكنه ان یلمس المأساة الیومیة التی یعیشها الناس طوال العشرین عاماً الماضیة. ان الشعارات البراقة و المزاودات لتحریر فلسطین و معاداة الصهیونیة و الامبریالیة و التظاهر »لمصلحة المستضعفین فی الارض« و لاستقلال الشعوب الخ، لیست الا ضرباً من الدعایات السیاسیة هدفها تجهیل الشعوب المغلوبة علی امرها، الامر الذی ینطبق علیه المثل الفارسی القائل ان »نغمة الطبول حلوة لكن من بعید«. فالآلاف من الأسئلة الحقیقیة التي تتعلق بالواقع المعاش، لم تجد ردوداً حقیقیة و شافیة علیها و طبیعي اذن ان یفتش الناس عن السبب الاساسي لبؤسهم و عمّن هم وراء هذا البؤس. هناك أسئلة حقیقیة و لكن ینقصها اجوبة حقیقیة.

و خلال 22 عاماً من تجربة النظام »الجمهوري الاسلامي« واجه الناس حقائق زادت في وعیهم و علمتهم أنه هناك فرق شاسع بین مایقال و ینقل عن الدین و ما ینفّذ علی الارض. و من المفارقة أن نتذكر أن هناك في الادب الفارسي  و في الثقافة التاریخیة الایرانیة أمثلة عدیدة عن عدم الثقة الذي كان یسود دائماً علاقة الناس برجال الدین. و عندما یهدر المال هباءاً و بدون جدوی یقال فیه أنه أصبح »ملّا خور« (اي أكله رجال الدین)!

و مثال آخر من الشاعر سعدي الشیرازي في كتابه »گلستان« (جنة الازهار) حیث یشكو و یحتج:

»ان رجال الدین یعلّمون الناس الزهد بالدنیا / في الوقت الذي یقومون هم فیه بكنز الفضة و الحنطة«،

و حافظ الشیرازي یقول أیضاً في نفس الاطار في دیوانه:

»هؤلاء الوعّاظ الذین یستخدمون ألف حیلة من علی منابرهم بغیة استقطاب الناس حولهم/ یقومون في خلوتهم بأفعال اخری«.

و الشاعر الرحالة »ناصر خسرو« صاحب »سفر نامه« یقول:

»هربت من أیدي الشاه و لجأت الی الشیخ/ لكنني كنت كمن یهرب خوفاً من النمل الی فم ثعبان«

هكذا فعل الایرانیون في صراعهم مع الحكم الشاهنشاهي المستبد إذ و رغم كل تلك التجارب التاریخیة التي كانت تختزنها ثقافتهم و أمثالهم الشعبیة، لجأوا الی رجال الدین و وثقوا بخطبهم المشحونة بالعواطف و التحریض الدینی، و السبب أن الشاه قام باغلاق جمیع النوافذ الفكریة و عطل النشاطات الاجتماعیة باستثناء الجوامع و المراكز الدینیة خوفاً منه علی نظامه من الخطر الشیوعي. اما الشعب، فلم یكن أمامه خیار الا القبول ببدیل لم یكن لدیه اي برنامج سیاسی و اجتماعی محدّد. فالغالبیة الساحقة من الشعب بایعت الخمیني لا حباً بالجمهوریة الاسلامیة بل عداءاً للشاه و من كانوا وراءه من القوی الدولیة. لكن ما رآه الایرانیون و عاشوه خلال أكثر من عقدین من الزمن ازال الكثیر من الاوهام و حسن الظن تجاه الحاكمین الجدد. ففي البدایة كان كل شیئ یتم حسب »واجب شرعي«، من القتال علی جبهات الحرب الی التصویت في الانتخابات، و المشاركة في المظاهرات و الادلاء بأي معلومات عن تحرك المعارضة. فالخمیني كان یفخر بأن جهازه الامنی الاسلامی یتشكل من 36 ملیون نفر مستعدین للوشایة بالمعارضین و لو یكونوا من ابنائهم...!

و یتذكر الناس حملة التجنید في المساجد و في كل انحاء ایران تحت شعار »كل یوم عاشوراء و كل ارض كربلاء«  حیث أدی ارسال الشباب و حتی اطفال المدارس الی الحرب مع العراق الی قتل عشرات الآلاف منهم دون جدوی. كما یتذكرون آیة الله علي مشكیني (و هو من كبار رجال الدین) و هو یخطب في الذاهبین الی میادین القتال و یحرّضهم و یبشرهم برؤیة الامام الغائب حینما یظهر في ظلام اللیل لیساعدهم في المعارك و یقول »أنا أفتخر بشاب منكم یأخذ معه آلة تصویر لیلتقط صورة لإمام الزمان المهدي المنتظر«!

في قدیم الزمان كان طلاب العلوم الدینیة معروفین بفقرهم و زهدهم و تدینهم، اما الان فكل الناس یعرفون ان رجال الدین ما ان وصلوا الی السلطة حتی قاموا بجمع الاموال لحساباتهم الشخصیة و لعائلاتهم. و خیر مثال علی ذلك تحذیرات و استنكارات من ولي الفقیه نفسه بانه علی رجال الدین ان یكونوا كالآخرین و ان لا یكون مستوی معیشتهم اعلی منهم، بصرف النظر عن أن موقفه هذا لم یكن سوی لامتصاص النقمة.

و هناك أمثلة اخری نشیر الی بعضها باختصار شدید:

- الوضع الاقتصادي المتدهور الذي استفاد منه كبار التجار في »البازار« و الذین كانوا دائماً سنداً لرجال الدین و الیوم یشكلون الجناح المتشدد المسمی بمناصري الفقه التقلیدي. هؤلاء هم المحتكرون الذین استفادوا من التضخم الهائل الذی تعاني منه غالبیة الشعب،

- قضایا العمال و  انتشار البطالة تصل نسبتها الی 13 بالمئة بشكل عام و في بعض المناطق الی 18 بالمئة حسب الاحصاءات الرسمیة.

- وضع المرأة و معاناتها الیومیة، علی جمیع المستویات.

- قضایا الشباب و حاجاتهم و تطلعاتهم.

- قضایا المدارس و الجامعات، و تطلعات المثقفین و الآلاف من القضایا الاخری التي أصبح حلها اكثر تعقیداً من ذي قبل.

كان یكفي ان یمرّ عشرون عاماً حتی یتولد لدی الناس نفور و نقمة تجاه الذین حكموا ایران من رجال الدین و اتباعهم. و كلما تسنح للشعب فرصة أظهر معارضته للذین حكموه رغماً عنه. ففي كل مرحلة انتخابیة و رغم كل العوائق التي اقیمت في الطریق لمنعه من ابداء رأیه الحقیقي حاول أن یؤثر في مصیر حیاته إما بعدم المشاركة و الرفض او بترجیح السیئ علی الأسوأ و كأي سجین یخطط و یقبل بسجّان یكون أقل بأساً و شدة، قبل الشعب بمجیئ مسؤول كان نوعاً ما متفهماً لمشاكل الناس و هكذا نجد انه في بعض الدورات الانتخابیة للمجلس النیابي الایراني كان رفسنجاني علی رأس لائحة الفائزین و الیوم لم یجد له أي نصیب الا بعد ثلاثة أشهر من التزویر في صنادیق الاقتراع. لقد استخدم نفوذه في مجلس صیانة الدستور لیعید عدّ الاصوات ثلاث او اربع مرات و حیث قام المجلس بالغاء اكثر من 700 الف من الاصوات و قدّم و أخّر مرشحین آخرین لیتسنی لرفسنجاني ان ترتفع مرتبته في قائمة الفائزین و یصبح الفرد العشرین بدلاً من الثلاثین لیكون بامكانه، كما كان یحلم، ان یصبح رئیساً للمجلس النیابي. و خلال هذه الفتره من الاشهر الثلاثه (بین یوم الانتخابات و اعلان النتائج!) قام رفسنجانی بالمستحیل و وراءه كل المحافظین المسیطرین علی مجلس صیانة الدستور و القوة القضائیة و الحرس الثوري و ... و لكنهم لم یتمكنوا من انقاذ ماء وجه رفسنجاني. و لم ینفعه قیام لجنة من مجلس صیانة الدستور بتصفیة المرشحین غیر المرغوب فیهم قبل الانتخابات، كما لم ینفعه اغلاق اكثر من 15 صحیفة اصلاحیة ...

لم یترك العلماء و الفقهاء من رجال الدین أیة خدعة الا قاموا بها لتحقیق غایاتهم، كما ارتكبوا جرائم بحق المعارضة من اغتیالات و اقامة محاكم تعسفیة و ذر الرماد في عیون الناس. لقد عاش الناس بشكل یومي تجارب التأرجح بین هذا الوهم و ذاك، أو التخلص من أوهام كانوا قد عاشوها. إن دینامیكیة الحیاة الیومیة هذه اعطتهم وعیاً جماعیاً تجلی في معاقبة رفسنجاني و امثاله. و الشیخ علی اكبر هاشمي رفسنجاني الذي كان الرجل القوي طوال 22 عاماً بما فیها أثناء عهد الخمیني، و الذي أقام الدنیا و لم یقعدها لیدخل المجلس بعد تزویر لم یسبق له مثیل حتی في ایام الشاه، اضطر أن »یستقیل« من عضویة المجلس النیابي، الا أنه لم یتمكن من أن ینقذ نفسه و نظامه من العقاب الشعبی. لقد تمسك بكرسی المجلس النیابي لیمنع طرح قضیة الاغتیالات ضد المعارضة و المثقفین في الداخل و الخارج و لیمنع ایضاً التحقیق في اسباب استمرار الحرب الایرانیة العراقیة 5‏ سنوات بعد استقرار القوات العراقیة علی الحدود الدولیة و كذلك التحقیق في قضایا عدیدة اخری كان رفسنجاني العنصر القیادي و المؤثر فیها، لكن النتیجة جاءت عكسیة. هدم رفسنجاني بذلك ما تبقی من مصداقیة لمجلس صیانة الدستور و لولي الفقیة الذي أید النتائج المزورة... لقد استقال من كان الاصلاحیون یعتبرونه آخر رصاصة في جعبة المحافظین لیكون عضواً في البرلمان و رئیساً محتملاً له و من غیر المستبعد ان یستقیل من رئاسة مجلس تشخیص مصلحة النظام أیضاً، لكن الصراع علی السلطة بین أجنحة النظام لن ینتهي بسهولة ناهیك عن الصراع المحتدم و الاساسي بین الشعب و الذین حكموه طوال 22 سنة الماضیة.

و جدیر بالذكر أن الطلاب المتظاهرین في جامعة طهران كانوا یرددون عشیة قراره بالاستقالة هذا الشعار: »آزادی اندیشه/ با هاشمي نَمیشه« (حریة الفكر مع هاشمي رفسنجاني امر محال). فهل أصبحت له آذان صاغیة؟!

--------------------------------------------------------

كاتب ایراني